20 - أبريل - 2024م

عندما يكون حل المشكلة هو المشكلة!

في عام 1958 كانت طيور «الدوري» تشكل أزمة مؤرقة في الصين، إذ كانت تأكل من بذور ونِتاج المحاصيل الزراعية، وتزايدت شكاوى الفلاحين حتى وصلت إلى زعيم البلاد آنئذِ «ماو تسي تونغ»، فأصدر قراراً عاجلاً بقتل جميع أنواع طيور الدوري في البلاد حتى تنتهي هذه المشكلة، وهز الجميع رؤوسهم للفكرة العبقرية، التي خرجت من عقل الزعيم المـُلهَم !

وتنفيذاً للقرار تسابق الفلاحون في قتل تلك الطيور، وقام المسؤولون بوضع مكافآت لمن يقتل عدداً أكبر منها، بل ويُعامَل معاملة الأبطال الوطنيين، فتمت إبادة تلك الطيور المسكينة، لأن ماو تسي تونغ ومن حوله لم يروا من الوضع إلا أثره السيئ، ولم يفهموا من المشهد إلا أنها مشكلة تستوجب الحل الفوري، فماذا حصل بعدها؟

بغياب تلك الطيور اختلّ التوازن البيئي الطبيعي، واجتاحت أسراب هائلة من الجراد جميع أنحاء البلاد، وهي الحشرات التي كانت طيور الدوري عدوّها الأول، وأقوى سلاح للحد من أضرارها على المساحات الزراعية الهائلة في طول البلاد وعرضها.

وبعد أن رأى أصحاب النظرة الضيقة من المشكلة ما تأكله طيور الدوري، تفاجأوا باجتياح الجراد لكل الأراضي وتدمير كل المحاصيل تماماً، الأمر الذي تسبّب في أكبر مجاعة في تاريخ الصين عام 1961، والتي نتج عنها لاحقاً موت 15 مليون إنسان جوعاً !

أسوأ عدو للإنسان هي فكرته، انطباعه الأول، ردّة فعله المتشنّجة التي لا يضبطها تأنٍ ولا يؤطرها بحث واف للموقف الذي يتعامل معه، وأخطر ما يرافقه هو تصفيق المطبّلين وتأييد الـمُنتفعين، فتطيش الحلول، ويتلاشى مفعولها سريعاً، لأنها تعاملت مع الظاهر بقالبه البسيط ولم تَسْبُر أعماق المشكلة وتبحث عن جذورها، فأتت الحلول متسرّعة وشديدة الضحالة، ولن يمر وقت طويل إلا وتظهر للسطح عواقب ذاك التسرّع وتداعيات العنتريات التي تتظاهر بالعبقرية!

من الجيد أن يثق الإنسان بنفسه وبقدراته ومعارفه، ولكنّ المواقف الملتبسة أو الـمُشكِلة تحتاج لأكثر من قدرات ومعارف وجرأة ذاك الشخص.

وكلما وصل تأثير المشكلة لشرائح أكثر من الناس استدعى الأمر أخذ آراء ومقترحات وتحفظات عدد أكبر من العقول، حتى يكون بالإمكان رؤية الوضع من أكثر من زاوية وفهم المشكلة بصورة أعمق وتوليد خيارات عدة لمواجهتها، والأفضل أن تأخذ وقتاً كافياً لإيجاد الحل مهما طالتك الانتقادات من المتسرّعين دوماً، مِن أن تتسرّع كما يتمنى البعض ثم يكون القرار أسوأ أثراً من المشكلة الأصلية نفسها !

على ذات السياق، فإنّه من المهم أن يقف الإنسان عند مستوى قدراته الذهنية المحدودة، و أن لا يُشكّل صداعاً للناس وهو يصرخ في كل مجلس «عقلي وعقلي»، وكأنّ من سواه قد وضعوا عقولهم في خزانة مغلقة ثم خرجوا للدنيا، فالكون ليس خَلْقاً عبثياً، وما يجري فيه يسير وفق نظام دقيق لا يشوبه خلل، ولا ينتظر مقاول صيانة أو خطة خمسية أو عشرية للحفاظ عليه.

وما يكتنف حياة البشر فيه وضع له خالق ذلك الكون العظيم نظاماً ودستوراً سماوياً منزّهاً عن النقص أو الخلل، ومَن حاول بعقله القاصر أن يُشغِّب عليه أو يدّعي الاستدراك على ما فيه، لا يعدو أن يكون طالب شهرة أو لفت أنظار له، ومَن خلق الحيّ وبث فيه الروح، وأحكم صُنع كل شيء، أدرى منّي ومنك بما يصلح ومالا يصلح !

مهما أعجبتك أفكارك، تأكد بأنّك تحكم بناء على ما ترى، أما ما لا تراه فكثير، وقد يكون تأثيره أهم من الذي تراه وتبني عليه أحكامك، وكلما كانت تبعات القرار، الذي ستتخذه كبيرة كانت الحاجة أشد للتريّث فيه حتى لا تكون العواقب أسوأ من المشكلة ذاتها، وإنّه من المهم ألا نسقط في مصيدة العقل الذي نحمله، فهذا العقل المخلوق لن يستطيع أبداً أن يستدرك على خالقه.

ولا أن يعي ما وراء كل أحكام وأوامر الخالق سبحانه، وإنّ من تمام العقل معرفة حدود العقل، ومَن ظنّ أنه بمجرد حفظه لبعض المصطلحات أو قراءته لبعض النظريات قد امتلك حق الاستدراك على كل شيء، فإنّ الوقت لن يتأخر، ليرى أنّه ليس ببعيد عمّن قتل طيور الدوري !

كاتب إماراتي

 

شاهد أيضاً

لإغاثة السكان المنكوبين… الإمارات أول دولة تنجح في الوصول لمدينة خانيونس

في إطار الجهود الإغاثية التي تبذلها دولة الإمارات العربية المتحدة في قطاع غزة.. واصلت عملية …