20 - أبريل - 2024م

الصدى البائس

دخل الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين أحد المساجد، فقام قاصٌّ وأخذ يقول: «حدثني أحمد بن حنبل ويحيى بن معين»، ثم يأتي بأحاديث مختلقة وأقاصيص منكرة، وأحمد يسأل يحيى: أحدثته أنت بذلك؟ فينفي، فلما انتهى القاص ناداه أحمد فجاء سريعاً ظانّاً أنهما سيعطيانه نَوالاً، فقال له: أنا أحمد بن حنبل وهذا يحيى بن معين، ولم نحدّثك أبداً بما قلت! فقال القاص وهو ينظر لهما باشمئزاز قبل أن يتركهما: «ما زلت أسمع أنكما غبيّان فلم أُصدّق إلا الساعة، لقد كتبت عن ألف أحمد بن حنبل وألف يحيى بن معين»!

عندما يريد شخص نشر رسالة مغلوطة عن أمر معين فإنّه يلجأ إلى نشره بين أُناس يعلم أنهم لا يعلمون صدقه من كذبه، ويجتزئ من الحقائق ما يبدو أنه كامل المعلومة ويضعها لتأكيد ما يرمي إليه، ويحاول الظهور بمظهر من قد أفحم الطرف الآخر ليكون أكثر إقناعاً عند المتلقي المستهدَف، لكنه لن يجرؤ على طرح شُبهته على المختصين بذلك المجال الذي تطفّل عليه، لأنهم يستطيعون نقض كل ما أتى به وهدّه مِن أساسه الهش!

عندما توافد المستشرقون في القرن الماضي وحاول كثيرون منهم الطعن في عقيدة هذه الأمة والتشغيب عليها وحشد الأكاذيب والأغاليط عن دينها وإرثها الثقافي العظيم، وإخراج المئات من الكتب التي تدّعي المهنية والطرح الأكاديمي والمئات من الدراسات المزعومة لتأييد وترسيخ تلك المطاعن، كانت هذه الأصوات المعادية تعلم – رغم تفنيد علماء الإسلام ومفكري الأمة لأكاذيبهم وتخرّصاتهم – أنّها تركت بذرة من أبناء الأمة نفسها سيكونون أكثر حماساً في رفع راية تلك المطاعن وإعادة نشرها مرات ومرات، وأن يكونوا صدى يردد ما قاله أولئك، لا يستطيع الزيادة عليه حرفاً واحداً ولا النقص منه!

كلما هدأت الأصوات المثرثرة حول السنة النبوية الشريفة، يعود المحامون عن مطاعن المستشرقين لترديد المطاعن من جديد، والمصيبة ليست في حماسهم الذي يُحسَدون عليه، ولكن تكمن المصيبة في أنهم لا يقرأون أبداً كل الردود المسهِبة في نقض أكاذيبهم تلك، وهم أكثر من «صدّعنا» بأهمية احترام الرأي المختلف وضرورة تقبل وجوده، لنكتشف لاحقاً أنّ الرأي المخالف الذي يجب احترامه هو كل من يطعن في الأمة ودينها، أمّا من يدافع أو يُفنّد تلك الأكاذيب فلا يعدو في عُرفهم مِن أن يكون متحجراً، متزمتاً، يعيش بعقلية عصور الظلام الأوروبية في القرون الوسطى!

يدّعي بعضهم إيراده نصاً مفحماً لمنع كتابة السنة وهو ينقل حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم نصه: «لا تَكْتبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلا حَرَجَ»، والسؤال هنا: كيف يستشهد بالسنة لإسقاط السنة؟ وكيف يعترف بها مؤقتاً لتمرير فكرته فقط ثم يعود لإنكارها؟ ولماذا لم يقرأ توضيح الأئمة الكبار لهذه النقطة؟ ألا يعرف أنّ المنع كان في البداية لكي لا تختلط السنة بالقرآن الكريم، وحتى خلال هذه المنع «المؤقت» قال صلى الله عليه وسلم «حدّثوا عني ولا حرج»، فهل محل الخلاف هو القول أو وسيلة توصيله؟ فإن كان القول فقد سقط الاعتراض، إذ الأمر بالتحديث عنه، وإن كان الكتابة فالكتابة مجرد وسيلة توصيل والإبلاغ الشفهي وسيلة أخرى!

والعجيب أنّ مردّدي شبهات المستشرقين المهلهلة هذه يتجاوزون عمداً أمر النبي صلى الله عليه وسلم لصحابة آخرين بالكتابة، الشيء الذي ينسف شبهتهم من أصلها الضعيف، فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد وأبو داود أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُريد حِفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتبُ كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ، يتكلّم في الغضب والرضا؟ فأمسكتُ عن الكتابة، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأُصبعه إلى فيه، فقال: «اكْتُبْ، فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه إلا حقّ».

هذه الأمة واجهت وستواجه مستقبلاً الكثير من الأصوات الناقمة، ولن تجد شُبهة تثار ويدّعي صاحبها أنه «أبو عرّيف زمانه» إلا وهي إعادة إحياء لكذبة استشراقية قديمة، ولا يحتاج الأمر إلا بحثاً سريعاً في غوغل ليجد تفنيدها وتفكيكها في عدد مهول من الصفحات، وتيقّنوا أنّ أي نشاز يبدأكم بجملة «أنا أُحَكِّم عقلي» لا عقل له، فهو بوق لا أكثر!

* كاتب إماراتي

شاهد أيضاً

لإغاثة السكان المنكوبين… الإمارات أول دولة تنجح في الوصول لمدينة خانيونس

في إطار الجهود الإغاثية التي تبذلها دولة الإمارات العربية المتحدة في قطاع غزة.. واصلت عملية …